
حسام عبد الحسين
الوظيفة ليست تهمة. قراءة في تحميل الموظف العراقي وزر نظام اقتصادي مشوّه
لم تعد النار في الخطاب الشعبي والإعلامي معيارا للأداء الوظيفي أو الكفاءة، بل تحولت إلى رمز للظلم الممنهج، والفساد المؤسسي، وسرقة مقدرات البلد وقوت الفقراء. وفي خضم هذا الهجوم العام، يُغيب الكثيرون حقيقة أساسية: أن ما يقارب ٩٠٪ من موظفي الدولة العراقية هم أبناء هذا الوطن، خدموا ويخدمون في ظروف بالغة الصعوبة، داخل جهاز اداري مشلول، ووسط اقتصاد مشوّه، لا ذنب لهم في صناعته.
الوظيفة الحكومية، في جوهرها، ليست خطيئة ولا امتيازا غير مبرر، بل هي حق اجتماعي تحول إلى ملاذ إجباري. لقد فرضته طبيعة التحول الجذري بعد عام ٢٠٠٣، الذي فرضه الاحتلال الامريكي في تخلي الدولة تدريجيا عن دورها الرعوي والتنموي الحقيقي، واتجهت نحو سياسة الاقتصاد الريعي القائم على إيرادات النفط فقط. ولتهدئة السخط المتصاعد ومعالجة البطالة، أغرق الجهاز الإداري بـ "التوظيف العشوائي"، الذي استخدم كمسكن مؤقت، دون بنية تحتية أو تخطيط يحول هذه الكتلة البشرية إلى قوة إنتاجية حقيقية.
ثم جاءت المرحلة التالية، الأكثر قسوة وابتعادا عن العدالة: تحميل الموظف البسيط نتائج هذا الفشل الهيكلي. فبعد أن جرى استخدام التوظيف كأداة لامتصاص الغضب، بدأ الخطاب الرسمي والشعبوي يتجه نحو اتهام الموظف بأنه "عبءٌ على الميزانية"، ومسؤول عن التقصير، بينما تغفل المحاسبة عن المليارات الضائعة في متاهات الفساد الكبرى.
إذن المشكلة الحقيقية، ليست في الموظف، بل في النظام السياسي والاقتصادي الذي حول الدولة من كيان خدمي إلى ما يشبه "الشركة". شركة تدار بمنطق الربح السريع، حيث يتحول المواطن إلى رقم في كشوفات الرواتب أو صفقة محسوبية، وتتحول الوظيفة التي يفترض أن تكون وسيلة للعيش الكريم والإسهام في البناء إلى "تهمة" يلام عليها حاملها.
لقد أدى البدء في التحول القسري نحو "اقتصاد السوق" و"الخصخصة" رأسمالية الشركات (النسخة الامريكية) إلى نتائج عكسية على الجمهور. فمع التراجع المتعمد لدور القطاع الحكومي والنمو المتسارع للقطاع الخاص (غير المنتج في غالب الأحيان)، لم يحصل استقرار معيشي حقيقي للأسر العراقية. بل على العكس، تآكلت الطبقتان الوسطى والفقيرة، وتغير نمط الحياة جذريا نحو مزيد من القلق وعدم اليقين، بينما ترك الموظف وحيدا يواجه تبعات هذا التحول.
وهذا النظام الاقتصادي المشوّه أنتج ممارسات إدارية تعكس فساده منها:
- سلم الرواتب المجحف الذي لا يتلاءم مع القوة الشرائية الحقيقية، مما يفقد الوظيفة معناها الأساسي في تأمين العيش.
- تقويض الحقوق عبر منع حق الإضراب أو المطالبة المشروعة.
- انتقائية المحاسبة، حيث يحاسب الموظف البسيط على أدق الهفوات، بينما يفلت كبار الفاسدين من أي مساءلة.
- ثقافة التسقيط ومحاربة المتميزين، ليبقى النظام على حاله، وتحفظ مواقع النفوذ.
- تحويل الدوائر الحكومية إلى إقطاعيات شخصية، حيث يتصرف المدير بمنطق "مالك الشركة"، لا مسؤول في مؤسسة دولة تخضع للقانون.
لذا من يريد الإنصاف، فليوجه سهام نقده إلى من صنع هذا الواقع المرير، لا إلى من وقع ضحيته. ان تحميل الموظف العراقي الذي يعيش على راتب بالكاد يكفيه لأسابيع وزر اختلالات نظام كامل، هو إمعان في الظلم.
إن الإصلاح يبدأ بالاعتراف بأن المعضلة ليست في أعداد الموظفين، بل في غياب الرؤية الاقتصادية الحقيقية، وهيمنة الفساد، واختزال الدولة إلى آلة للريع والتوظيف السياسي.
لقد آن الأوان لوقف تحويل الوظيفة من حق إلى تهمة، والبدء بمحاسبة من حولوها من أداة بناء إلى أداة هدم للوطن ولحياة ملايين العراقيين الأبرياء.

1633 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع