العراق على حافة التطهير الصامت: مسيحيو الرافدين في مواجهة الإرهاب الإسلامي السياسي وهيمنة السلاح

روبيرت ملحم / صحفي ومراقب سياسي

العراق على حافة التطهير الصامت: مسيحيو الرافدين في مواجهة الإرهاب الإسلامي السياسي وهيمنة السلاح

لم تعد مخاوف المسيحيين في العراق مجرّد هواجس أقلية عانت ويلات الماضي، بل تحوّلت إلى قناعة راسخة بأن وجودهم التاريخي بات مهدداً تهديداً مباشراً في ظل تصاعد نفوذ الإسلام السياسي المتشدد، وتآكل سلطة الدولة، وانتشار السلاح خارج إطار القانون. فبعد سنوات على هزيمة تنظيم “داعش” عسكرياً، يبدو أن جذور التطرف لم تُقتلع، بل أعادت إنتاج نفسها بأشكال أكثر دهاءً، متخفية بلباس السياسة والنفوذ الاجتماعي.
يعرف مسيحيو العراق جيداً معنى أن يُتركوا وحدهم في مواجهة العنف. ذاكرة القتل والتهجير القسري، وتفجير الكنائس، ومشاهد الصلب والذبح، لم تُمحَ من الوجدان الجماعي. لكن الخطر اليوم، كما يقول كثيرون منهم، لم يعد صاخباً كما كان في زمن “داعش”، بل بات صامتاً، منظّماً، ومحصّناً بغطاء سياسي وطائفي يمنع مساءلته.
الإرهاب الإسلامي السياسي لا يتمثل فقط في جماعات مسلحة تحمل السلاح علناً، بل في منظومة فكرية وسلوكية ترى في المسيحي “آخر” غير منتمٍ، ومواطناً من درجة أدنى. هذه المنظومة تبرّر الإقصاء، وتصمت عن الاعتداءات، وتغضّ الطرف عن الاستيلاء على الأراضي والمنازل، خصوصاً في مناطق سهل نينوى وبغداد والبصرة. ومع كل حادثة تمرّ بلا محاسبة، تتعمّق قناعة المسيحيين بأن القانون لا يحميهم، وأن الدولة غائبة أو عاجزة أو متواطئة.
الأخطر من ذلك أن بعض القوى المرتبطة بالإسلام السياسي باتت جزءاً من العملية السياسية نفسها، ما يمنحها شرعية شكلية وسلطة فعلية تتجاوز سلطة الدولة. هذه القوى، بحسب ناشطين مسيحيين، تمارس ضغوطاً مباشرة وغير مباشرة لإفراغ مناطق تاريخية من سكانها الأصليين، عبر الترهيب الاقتصادي، وفرض الأمر الواقع، وتغيير البنية الديموغرافية، في عملية بطيئة لكنها ممنهجة.
في هذا السياق، تتحول الهجرة إلى الخيار الوحيد أمام آلاف العائلات المسيحية. فحين يغيب الأمان، وتُسلب الممتلكات، ويُهدَّد الأبناء، يصبح الرحيل مسألة بقاء. وهكذا يخسر العراق، عاماً بعد عام، واحداً من أقدم مكوّناته الحضارية، مكوّناً ساهم في بناء الدولة، وصاغ ثقافتها، وكان شاهداً على تاريخها منذ آلاف السنين.
ولا يخفي رجال دين مسيحيون ونشطاء غضبهم من الخطاب الرسمي الذي يكتفي بالكلام عن “التعايش” و“التنوع” من دون إجراءات حقيقية. فالتعايش لا يُبنى بالخطب، بل بفرض سيادة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة، ومحاسبة المعتدين مهما كانت انتماءاتهم، وضمان تمثيل حقيقي للأقليات بعيداً عن الوصاية والاستغلال السياسي.
إن ما يجري اليوم ليس أزمة أمنية عابرة، بل معركة على هوية العراق نفسه. فبلد يُقصي مسيحييه، أو يعجز عن حمايتهم، إنما يعلن فشله في أن يكون دولة مواطنة، ويفتح الباب أمام مزيد من التطرف والانقسام. وإذا استمر الصمت الرسمي، فإن التاريخ قد يكتب أن الوجود المسيحي في العراق لم يُنهَ بانفجار واحد، بل قُضي عليه تدريجياً، عبر إرهاب إسلامي سياسي صامت، ودولة اختارت أن تنظر إلى الجهة الأخرى.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1153 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع